في زمن مضى،
حيث كانت الطرقات أقل والعزلة أكثر، كان هناك رجل يحب السفر في أرجاء الأرض ليكتشف
عجائبها ويتأمل في خلق الله. وفي إحدى رحلاته، سار في غابة إفريقية كثيفة، تتداخل
أشجارها العالية وتتشابك أغصانها، وتتراقص أوراقها مع كل نسمة هواء. كان الغروب قد
بدأ يلقي بظلاله على المكان، وحينها، سمع الرجل صوتًا يهز كيانه، زئيرًا قويًا
يليه صوت خطوات سريعة تقترب منه. التفت على الفور، فرأى أسدًا ضخمًا، له عرف مهيب
وعيون تلمع في الظلام، يركض نحوه بضراوة.
لم يفكر الرجل
مرتين، انطلق يجري كالسهم، محاولًا النجاة بنفسه من هذا المصير المحتوم. وبينما
كان يركض وهو يلهث، لمح بئرًا قديمة، يبدو أنها مهجورة منذ زمن بعيد. كانت شفتاها
متهالكة، ومعلقة بها حبال بالية. كانت هذه البئر هي الملاذ الأخير. لم يتردد، فقفز
إلى داخلها ممسكًا بأحد الحبال، ظنًا منه أنه نجا من مخالبه القاتلة.
تنفس الصعداء،
ونظر إلى الأعلى ليتأكد من أن الأسد لم يستطع الوصول إليه. ثم نظر إلى الأسفل،
فكانت الصدمة أقسى من أي خوف مر به. رأى في قاع البئر ثعبانًا أسودًا ضخمًا،
ملتفًا على نفسه، وفاتحًا فمه الواسع ينتظره ليسقط فيه. أصبح الرجل معلقًا بين
خطرين، فالأسد يتربص به في الأعلى، والثعبان ينتظره في الأسفل. لم يكن هذا كل شيء،
نظر إلى الحبل الذي يمسك به، فرأى فأرين، أحدهما أبيض والآخر أسود، يقضمان الحبل
ببطء وثبات، كلما تحرك الفأر الأبيض قليلاً، يتبعه الفأر الأسود في قرضه للحبل،
وكانت أجزاء الحبل تتساقط بينهما، معلنة قرب النهاية.
في هذه اللحظة
العصيبة، وبينما كان يرتعد خوفًا من مصائبه التي تتوالى عليه، شم رائحة طيبة، ونظر
إلى جانب البئر فوجد خلية نحل، تتساقط منها قطرات عسل ذهبية. لم يستطع الرجل
مقاومة هذا الإغراء، مد يده وأخذ يلعق من حلاوة العسل. نسي كل شيء. نسي الأسد،
ونسي الثعبان، ونسي الفأرين اللذين يقضمان حبله، كل ما فكر فيه كان هو حلاوة العسل
التي استهوته.
وفجأة، استيقظ
الرجل من نومه مذعورًا، وقد شعر بثقل هذا الحلم الغريب. ذهب إلى حكيم القرية ليفسر
له هذا المنام. فابتسم الحكيم وقال له: "اعلم يا بني أن الأسد هو ملك الموت
الذي يطارد كل إنسان منذ ولادته. أما البئر، فهي قبرك، وحفرة كل إنسان بعد وفاته.
والثعبان الذي ينتظرك في قاع البئر هو عذاب القبر الذي نسأل الله أن ينجينا منه.
أما الفأران الأبيض والأسود، فهما الليل والنهار اللذان يقضيان من عمرك يومًا بعد
يوم، وأنت لا تشعر بذلك. وأخيرًا، العسل الذي ألهاك عن كل شيء، هو حلاوة الدنيا
وشهواتها التي تنسي الإنسان أنه سيموت، وتغفله عن مصيره المحتوم".
العظة والحكمة
تُذكّرنا هذه
القصة بوضوح أن الحياة بكل ما فيها من ملذات هي مجرد حلم قصير قد ينسينا حقائق
كبرى. فالليل والنهار يقضيان من أعمارنا، والموت يتربص بنا في كل لحظة، وما بين
هذا وذاك، قد ننشغل بحلاوة الدنيا الفانية وننسى الاستعداد للآخرة. فالعاقل من
يتذكر أن الدنيا مجرد معبر، وأن الحلاوة الحقيقية تكمن في العمل الصالح والاستعداد
ليوم الحساب.