في قلب الجنوب المصري، حيث تقف شواهد الحضارة
الفرعونية شامخة تتحدى الزمن، يقع معبد أبو سمبل، ذلك الصرح الأسطوري الذي بناه
رمسيس الثاني ليكون رمزًا لقوته وحبه الأبدي. لكن خلف هذه العظمة الظاهرة، تكمن
أساطير وقصص همست بها الأجيال، قصص عن أرواح تائهة وظلال غامضة تجوب أروقة المعبد
تحت جنح الظلام. ومن بين هذه القصص، برزت أسطورة "الظل المفقود"، الظل
الذي لا يعرف له أصل ولا غاية، يظهر ويختفي كطيف من عالم آخر.
شغف يقود إلى المجهول مقدمة عن رامي وأسطورة الظل
كان "رامي"، مهندس معماري في أواخر
الثلاثينيات من عمره، يمتلك شغفًا لا يضاهى بالتاريخ المصري القديم. لم تكن هوايته
مجرد قراءة كتب أو زيارة متاحف، بل كانت أشبه بالبحث الدؤوب عن الألغاز التي لم
تحل بعد. قضى سنوات في دراسة النقوش الهيروغليفية، وتصميمات المعابد، والأساطير
المحيطة بكل حجر وكل تمثال. مكتبته الشخصية كانت تعج بالمخطوطات النادرة
والتحليلات الأكاديمية، وهاتفه مليء بتطبيقات الترجمة وقواعد البيانات الأثرية.
أسطورة "الظل المفقود في معبد أبو سمبل" لم
تكن مجرد قصة عابرة بالنسبة لرامي. سمع عنها لأول مرة من خلال مخطوطة قديمة ترجمها
بنفسه، ثم وجد إشارات متفرقة لها في كتابات بعض المستكشفين الأوائل الذين زاروا
المنطقة في القرن التاسع عشر. تحدثت الأسطورة عن ظل لا يتبع جسدًا، يظهر في ليالي
اكتمال القمر داخل قدس الأقداس، يتحرك بصمت مخيف، ويقال إنه حارس لكنز مفقود أو
روح كاهن عظيم لم تجد طريقها إلى العالم الآخر. هذا الغموض كان بمثابة دعوة شخصية
لرامي. لم يكن مجرد فضول، بل دافع علمي لتوثيق الظاهرة، وربما، إذا حالفه الحظ، كشف
سرها. قرر أن يخوض هذه المغامرة مسلحًا بعقله العلمي، كاميرته عالية الدقة، وجهاز
تسجيل صوتي حساس، ليجمع أدلة ملموسة، أو ربما لينفي الأسطورة مرة وإلى الأبد.
ليلة في حضرة الفراعنة الوصول إلى أبو سمبل
اختار رامي ليلته بعناية فائقة؛ ليلة شتاء قارسة
البرودة، حيث يكتمل القمر بدرًا، وهي الظروف التي ذكرتها الأساطير مرارًا لظهور
الظل. وصل إلى محيط معبد أبو سمبل في ساعة متأخرة، بعد أن تأكد من خلو المكان من
السياح والحراس المعتادين، مستغلاً تصريحًا خاصًا حصل عليه بصعوبة بالغة لأغراض
"بحث معماري ليلي". كان القمر الفضي يلقي بضوء شبحي على واجهة المعبد
المهيبة، حيث تماثيل رمسيس الثاني الأربعة تحدق في الفراغ الأبدي بصمت مطبق.
الرياح الصحراوية الباردة كانت تعصف، حاملة معها حبات الرمل التي ترتطم بالصخور محدثة
أصواتًا تشبه الهمسات الخافتة، مما أضفى على المكان جوًا من الرهبة والترقب.
أوقف رامي سيارته بعيدًا عن المدخل الرئيسي، وترجل
منها حاملاً حقيبته التي تحتوي على معداته. كل خطوة كان يخطوها نحو المعبد كانت
تزيد من خفقان قلبه، مزيج من الإثارة والرهبة. شعر بثقل التاريخ يحيط به من كل
جانب، وكأن أرواح بناة المعبد وملوكه ما زالت تحوم في الأرجاء. باستخدام مصباح
يدوي قوي، شق طريقه بحذر إلى داخل المعبد. الظلام كان كثيفًا، والهواء بالداخل
أبرد من الخارج، يحمل رائحة الغبار العتيق والصخور الرطبة.
استكشاف المعبد عظمة الماضي وبوادر القلق
كانت القاعات الداخلية للمعبد تحفة فنية بحد ذاتها.
الأعمدة الضخمة المزينة بالنقوش الملونة، الجدران التي تحكي قصص انتصارات رمسيس
الثاني ومعاركه، التماثيل التي تجسد الآلهة والملوك بدقة متناهية. كل زاوية كانت
تنطق بعظمة الحضارة المصرية. بدأ رامي عمله المنهجي، يلتقط صورًا فوتوغرافية
بزوايا مختلفة، ويسجل ملاحظاته الصوتية حول التفاصيل المعمارية التي تهمه. كان
يتحدث بصوت خفيض إلى جهاز التسجيل، يصف انطباعاته وتحليلاته، محاولاً أن يبدو
موضوعيًا قدر الإمكان.
"القاعة
الكبرى... الإضاءة القمرية تخلق ظلالاً مثيرة للاهتمام على النقوش... لا شيء غير
عادي حتى الآن..." همس في مسجله.
ولكن، مع مرور الوقت، بدأ شعور غريب يتسرب إليه. لم
يكن مجرد الإحساس بالوحدة في مكان أثري شاسع، بل كان شيئًا أعمق. شعر بانخفاض
مفاجئ في درجة حرارة الهواء المحيط به، رغم عدم وجود تيارات هوائية واضحة. ثم بدأت
تلك الهمسات، التي ظنها في البداية من فعل الرياح في الخارج، تزداد وضوحًا، وكأنها
كلمات غير مفهومة تتسلل إلى أذنيه مباشرة. حاول أن ينسبها إلى الإرهاق أو قوة
الإيحاء، لكن جزءًا منه بدأ يشعر بالقلق الحقيقي.
الظل يتجسد الرعب في قلب المعبد
واصل رامي تجواله بحذر، متبعًا خريطة المعبد التي
حفظها عن ظهر قلب. وصل إلى القاعة الرئيسية، حيث ينتصب تمثال ضخم لرمسيس الثاني
جالسًا على عرشه، بنظرة حادة تخترق الظلام. كان التمثال مهيبًا بشكل يفوق الوصف،
بدا وكأن عينيه المصنوعتين من حجر الكوارتز تلمعان ببريق خاص تحت ضوء القمر
المتسلل من فتحات السقف. جلس رامي على الأرض، على مسافة آمنة، يستعد لالتقاط صور
مقربة للتمثال. رفع كاميرته، وضبط العدسة، وعندما نظر من خلال معين المنظر، لاحظ
شيئًا غريبًا في انعكاس عيني التمثال.
كان هناك ما يشبه الظل الخافت، شكل بشري غير واضح
المعالم، يتحرك ببطء شديد خلف التمثال، في منطقة لم يكن من المفترض أن يكون فيها
أي شيء. حبس رامي أنفاسه، وحاول التركيز. عندما رمش بعينيه، كان الظل قد تلاشى،
وكأنه لم يكن موجودًا قط. ارتجف قليلاً، وتساءل عما إذا كان قد بدأ يهلوس. هل هو
تأثير المكان، أم أن الأسطورة بدأت تتجسد أمامه؟
"لا
بد أنه خداع بصري... الظلال تتراقص بفعل ضوء القمر..." همس لنفسه، محاولاً
استجماع شجاعته. لكن قلبه كان يدق بعنف. قرر أن يتجاهل الأمر مؤقتًا ويواصل مهمته.
ممرات الظلام والغرفة السرية الكتاب الملعون
تقدم رامي بحذر نحو الممرات الجانبية، التي كانت أضيق
وأكثر ظلمة. هنا، أصبحت الأصوات الغامضة أكثر إلحاحًا، والظلال تبدو وكأنها تتكاثف
وتتحرك في زوايا رؤيته. شعر وكأن هناك من يراقبه، خطوات خفية تتبعه. كل حفيف وكل
صدى كان يجعله يلتفت بسرعة، مصباحه يخترق الظلام بحثًا عن مصدر مجهول. وصل إلى
نهاية أحد الممرات، حيث لاحظ وجود باب حجري صغير، بالكاد يمكن تمييزه عن بقية
الجدار، لم يكن مذكورًا في الخرائط السياحية المعتادة، ولكنه كان مطابقًا لوصف ورد
في إحدى المخطوطات التي قرأها عن "غرفة الأسرار".
بجهد، دفع رامي الباب الحجري الثقيل، الذي أصدر صريرًا
مؤلمًا كأنه أنين صادر من أعماق التاريخ. وجد نفسه في غرفة صغيرة، مربعة الشكل،
أكثر برودة وظلامًا من أي مكان آخر في المعبد. الهواء كان ثقيلاً، مشبعًا برائحة
عفونة وتراب قديم. في وسط الغرفة، على قاعدة حجرية بسيطة، كان يرقد كتاب ضخم، مجلد
بجلد داكن متيبس، وصفحاته من ورق البردي الأصفر الهش.
ارتعشت يدا رامي وهو يمد يده نحو الكتاب. كان يشعر
بهالة غريبة تنبعث منه، مزيج من القوة القديمة والتحذير. بحذر شديد، التقط الكتاب،
وبدأ يتصفح صفحاته. كانت النصوص مكتوبة بلغة هيروغليفية قديمة جدًا، تختلف عن تلك
التي اعتاد عليها. بعض الرموز كانت مألوفة، لكن معظمها كان غامضًا ومعقدًا. أخرج
هاتفه، وفتح تطبيق ترجمة متخصص، وبدأ يلتقط صورًا للصفحات ويحاول فك رموز بعض
الكلمات والجمل.
صحوة الشر الكيان الفرعوني
بينما كان رامي منهمكًا في محاولة ترجمة فقرة تبدو
وكأنها تحذير أو تعويذة، بدأت الغرفة تهتز بشكل خفيف. في البداية ظن أنه زلزال
طفيف، لكن الاهتزاز ازداد قوة، وسمع صوت خطوات ثقيلة تقترب من خارج الغرفة، رغم
أنه كان متأكدًا أنه وحيد. نهض بسرعة، محاولاً العودة إلى الممر، لكنه وجد أن
الباب الحجري قد أُغلق بإحكام، وكأن قوة خفية أمسكت به. حاول دفعه، سحبه، لكنه لم
يتزحزح.
الخوف الحقيقي، البارد واللزج، بدأ يتسلل إلى قلبه
كالأفعى. تذكر بعض الكلمات التي نجح في ترجمتها من الكتاب – كلمات تتحدث عن حراس
أبديين وعقوبات لمن يزعج سكونهم. بدأ يتلوها بصوت مرتجف، لا يعرف إن كان ذلك
سيساعده أم سيزيد الطين بلة. فجأة، انطفأ مصباحه اليدوي، وانطفأت الأضواء
الاحتياطية الصغيرة التي كان قد وضعها في زوايا الغرفة. عم الظلام التام والمطبق.
وفي هذا الظلام، ظهرت هي.
شكل أنثوي رشيق، يتوهج بضوء خافت ذاتي. كانت ترتدي
ثوبًا فرعونيًا أبيض اللون، بسيطًا وأنيقًا، وشعرها الأسود الطويل ينسدل على
كتفيها. وجهها كان جميلاً بشكل خارق، لكن عينيها كانتا حمراوين، تلمعان كجمرتين
متقدتين في الظلام، تحملان نظرة لا توصف من الغضب والقوة القديمة.
"لم
يكن يجب أن تفتح الكتاب، أيها الفاني،" قالت بصوت هادئ، لكنه كان يحمل صدى
قرون من الزمن، صوتًا اخترق عظام رامي وأرعشه حتى النخاع. "لقد أيقظت ما كان
يجب أن يظل نائمًا. والآن، عليك أن تدفع الثمن."
حاول رامي أن يتكلم، أن يعتذر، أن يستفسر، لكن صوته
اختنق في حنجرته. لم يستطع سوى التحديق في رعب بذلك الكيان الذي تجسد أمامه. بدأت
المرأة تتحرك نحوه ببطء، خطواتها صامتة، وكلما اقتربت، شعر رامي بقوة غير مرئية
تضغط عليه، تسحبه نحو الأرض، وتستنزف طاقته. البرودة أصبحت لا تطاق، وشعر بصعوبة
في التنفس.
الهروب المروع صرخات في الظلام
في لحظة يأس مطلق، بينما كانت المرأة تقترب منه ويدها
الممدودة تتوهج بضوء أحمر مخيف، تذكر رامي التعويذة التي كان يحاول قراءتها من
الكتاب. جمع كل ما تبقى لديه من قوة إرادة، وبدأ يتلو الكلمات بصوت عالٍ وواضح،
رغم ارتجافه. كانت كلمات غريبة، مقاطع صوتية لا معنى لها بالنسبة له، لكنها بدت
تحمل قوة ما.
مع كل كلمة يتلوها، كانت الأصوات الغامضة في الغرفة
ترتفع وتصبح أكثر حدة، كأنها صرخات ألم أو غضب. الأضواء بدأت تومض بشكل متقطع، ثم
عادت بشكل تدريجي، كاشفة عن الغرفة مرة أخرى. المرأة الفرعونية توقفت، وارتسم على
وجهها تعبير من المفاجأة، ثم الألم. بدأت صورتها تهتز وتتلاشى، ثم اختفت فجأة كما
ظهرت، تاركة وراءها رائحة بخور قوية وبرودة شديدة.
عاد الباب الحجري ليفتح ببطء مصدراً صريراً عالياً. لم
يضيع رامي لحظة. اندفع خارج الغرفة السرية، ركض عبر الممرات المظلمة، لا يلوي على
شيء، كل ما يريده هو الوصول إلى النور، إلى الخارج. بينما كان يركض بالقرب من مدخل
المعبد، سمع صوت صرخة حادة، مؤلمة، تأتي من الخلف، من أعماق المعبد. لم يجرؤ على
الالتفات.
وصل إلى مدخل المعبد وهو يلهث، يكاد يسقط من الإعياء
والخوف. استدار بحذر ونظر خلفه. المعبد كان يقف صامتًا تحت ضوء القمر، عظيماً
وهادئاً بشكل مخيف. لم يرَ أي ظل، ولا أي امرأة. كل شيء بدا طبيعيًا، وكأن ما حدث
كان مجرد كابوس مروع. هرع إلى سيارته، وأدار المحرك وانطلق بأقصى سرعة، مبتعدًا عن
أبو سمبل، وهو لا يزال يشعر بنظرات غير مرئية تلاحقه وبرعب ما حدث يتغلغل في كل
خلية من جسده.
لعنة تطارد الخطى أيام من الرعب المتواصل
عاد رامي إلى فندقه الصغير في أسوان، بالكاد استطاع أن
يمسك بمفتاح غرفته بيديه المرتجفتين. أغلق الباب وأسنده بكرسي، وجلس على طرف
السرير، قلبه ينبض بعنف كأنه سيخرج من صدره. حاول أن يهدئ من روعه، أن يقنع نفسه
بأن ما رآه كان مجرد هلوسة نتجت عن الإرهاق والتوتر والأجواء المخيفة للمعبد ليلاً.
أخرج الكاميرا، وبدأ يراجع الصور التي التقطها. كانت
معظمها صورًا معمارية عادية، نقوشًا وتماثيل. لكن عندما وصل إلى الصور التي
التقطها لتمثال رمسيس الثاني في القاعة الرئيسية، لاحظ شيئًا أرسل قشعريرة في
جسده. في انعكاس عيني التمثال، لم يكن هناك شيء واضح، لكن كان هناك تشويش غريب،
بقعة داكنة لم تكن موجودة في الصور الأخرى. لم يكن دليلاً قاطعًا، لكنه كان كافيًا
ليزيد من اضطرابه.
قرر أن يكتب تقريرًا مفصلاً عن تجربته، ليس للنشر، بل
لنفسه، ليوثق كل تفصيل قبل أن يتلاشى من ذاكرته. لكنه شعر بأن هناك شيئًا ما
يختلف، شيء ما قد تغير. بدأ يسمع همسات خافتة حتى في غرفته بالفندق، أصواتًا تشبه
تلك التي سمعها في المعبد. عندما أغمض عينيه لينام، كانت صورة الغرفة السرية
والمرأة الفرعونية ذات العيون الحمراء تتراقص أمام جفنيه، تتحول إلى كوابيس تطارده
كلما غفا.
الأيام القليلة التالية تحولت إلى جحيم متنقل. عاد
رامي إلى القاهرة، محاولاً استئناف حياته الطبيعية، لكن اللعنة – أو أياً كان ما
أطلقه من عقاله في تلك الليلة – تبعته. بدأ يرى ظلالاً تتحرك بسرعة في زوايا
رؤيته، حتى في وضح النهار. كان يسمع أصوات خطوات خافتة في شقته الفارغة. الأغراض
الصغيرة بدأت تسقط من على الرفوف دون سبب واضح. زار مكتبه الهندسي ذات يوم، ليجد
الأوراق مبعثرة على الأرض، والكتب مقلوبة، ورسوماته الهندسية ممزقة بشكل غريب.
أصدقاؤه وزملاؤه لاحظوا شحوبه وقلقه الدائم. حاول
التحدث إلى بعض علماء المصريات والخبراء في الظواهر الخارقة، لكن معظمهم نظروا
إليه بشك، أو قدموا تفسيرات نفسية لم تقنعه. كان يعلم، في قرارة نفسه، أن ما
يواجهه حقيقي، وأنه مسؤول عنه. الكتاب، تلك الغرفة السرية، لقد فتح بابًا لم يكن
يجب أن يُفتح.
العودة المحتومة مواجهة المصير في أبو سمبل
مع مرور الأسابيع، ازداد الوضع سوءًا. لم يعد رامي
قادرًا على النوم أو التركيز في عمله. صحته بدأت تتدهور. أدرك أنه لا يمكنه الهرب
من هذا. الخيار الوحيد المتبقي هو العودة إلى معبد أبو سمبل، ومحاولة تصحيح الخطأ
الذي ارتكبه. ربما إذا أعاد الكتاب إلى مكانه، وتلا نوعًا من الاعتذار أو الدعاء،
قد تتركه اللعنة وشأنه.
جهز نفسه لهذه الرحلة بكل ما أوتي من قوة. هذه المرة
لم يكن مدفوعًا بالفضول، بل باليأس والحاجة الماسة للخلاص. أحضر معه الكتاب
القديم، الذي كان قد أخذه معه في هروبه المروع، بالإضافة إلى مصابيح قوية،
وبطاريات إضافية، وبعض التمائم الدينية التي نصحه بها شيخ كبير التقى به. وصل إلى
المعبد عند غروب الشمس. كانت الأجواء هذه المرة مشحونة بالتوتر بشكل أكبر. السماء
كانت ملبدة بغيوم رمادية، والرياح تعوي بشكل نذير شؤم.
دخل المعبد مرة أخرى، قلبه يخفق بقوة، لكن هذه المرة
كان هناك تصميم في عينيه. اتجه مباشرة نحو الممر المؤدي إلى الغرفة السرية. عندما
وصل، وجد الباب الحجري مفتوحًا قليلاً، وكأنه كان في انتظاره. تردد للحظة، ثم دفع
الباب ودخل بحذر.
وضع الكتاب على القاعدة الحجرية في وسط الغرفة. أخرج
ورقة كان قد دوّن عليها بعض الأدعية والابتهالات، ممزوجة ببعض الكلمات التي استطاع
ترجمتها من الكتاب نفسه، والتي بدت وكأنها نوع من طقوس الإغلاق أو التهدئة. بدأ
يتلوها بصوت مرتجف ولكنه مسموع.
فجأة، هبت رياح عاتية داخل الغرفة المغلقة، أطفأت
الشموع التي كان قد أشعلها، وجعلت الأضواء الكهربائية تهتز بعنف. ظهرت المرأة
الفرعونية مرة أخرى، لكنها هذه المرة كانت تبدو أكثر غضبًا، وعيناها الحمراوان
تتوهجان بحدة أكبر. هالة من القوة المظلمة كانت تحيط بها.
"لقد
أعدت الكتاب، أيها الفاني المتعجرف،" قالت بصوت ارتعدت له جدران الغرفة.
"لكن هذا لا يكفي. الثمن لم يُدفع بالكامل بعد. لقد أزعجت سكون الأبدية،
وتجرأت على لمس ما هو محرم. عليك أن تضحي بشيء عزيز عليك، شيء يعادل حرمة ما فعلت."
التضحية والندم كسر اللعنة
حاول رامي التفاوض، صوته يرتجف "أنا مستعد لفعل
أي شيء. أخبريني ما هو الثمن؟ أنا نادم على ما فعلت، لم أكن أدرك..."
قاطعه صوتها البارد كجليد الموت "الندم وحده لا
يكفي. روحك... روحك ستكون جزءًا من هذا المكان، حارسًا جديدًا للأسرار التي
دنستها. ستبقى هنا إلى الأبد."
في تلك اللحظة، شعر رامي بقوة هائلة تجذبه نحو الكيان،
وكأن روحه بدأت تنسلخ من جسده. الكاميرا التي كان لا يزال يحملها حول رقبته بدأت
تهتز بعنف، وفلاشها يومض بشكل تلقائي، ملتقطًا صورًا سريعة للغرفة وللمرأة
المتوهجة. لقطات مشوشة، لكنها توثق وجودًا لا ينتمي لهذا العالم.
شعر رامي باليأس يسيطر عليه. هل هذه هي نهايته؟ أن
يصبح مجرد ظل آخر في هذا المعبد؟ لكن فجأة، مرت أمام عينيه صور عائلته، أصدقائه،
كل الأشياء الجميلة في حياته التي لم يكن مستعدًا للتخلي عنها. موجة من المقاومة
اجتاحته. لا، لن يستسلم.
بدأ يتلو الأدعية الدينية التي يعرفها، آيات من القرآن
الكريم، بكل ما أوتي من إيمان وقوة. صرخ بها في وجه الكيان، مستعينًا بكل ذرة من
إرادته. في نفس الوقت، كان يتلو مرة أخرى الكلمات التي قرأها في الكتاب، تلك التي
بدت وكأنها طقس إغلاق.
حدث شيء غريب. الأضواء بدأت تهدأ تدريجيًا. الرياح
العاتية خفت حدتها. المرأة الفرعونية نظرت إليه، ولأول مرة، رأى شيئًا آخر غير
الغضب في عينيها الحمراوين. ربما كان حزنًا، أو تفهمًا.
"لقد
أظهرت شجاعة، وندمًا حقيقيًا، وإيمانًا عميقًا،" قالت بصوت بدأ يفقد حدته،
ويصبح أقرب إلى الهمس. "قوة إرادتك فاجأتني. سيتم رفع اللعنة عنك. لكن تذكر
هذا الدرس جيدًا، أيها الفاني بعض الأبواب يجب أن تبقى مغلقة إلى الأبد، وبعض
الأسرار يجب ألا تُنبش."
بدأت صورتها تتلاشى ببطء، كدخان يتصاعد في الهواء، حتى
اختفت تمامًا. عادت الغرفة إلى هدوئها المخيف، لكن البرودة الشديدة بدأت تنحسر.
العودة إلى الحياة درس لا يُنسى
لم يضيع رامي لحظة. فتح الباب بسرعة وركض خارج المعبد،
هذه المرة لم يسمع أي صرخات. وصل إلى سيارته، وشعر بإرهاق هائل، لكنه شعر أيضًا
براحة لم يشعر بها منذ أسابيع. اللعنة قد رُفعت.
عاد إلى القاهرة، وبعد فترة من النقاهة والتفكير العميق،
قرر أن ينشر قصته. ليس طلبًا للشهرة، بل كتحذير للآخرين. كتب مقالاً مفصلاً، دون
ذكر اسمه صراحة، ونشره في إحدى المجلات المهتمة بالآثار والظواهر الغريبة. حذر فيه
من أن الفضول غير المدروس، والعبث بالأماكن ذات القدسية التاريخية، قد يؤدي إلى
عواقب وخيمة لا يمكن تصورها.
مع مرور الأشهر، بدأت آثار التجربة المرعبة تتلاشى
تدريجيًا من حياة رامي. عاد إلى عمله كمهندس معماري، وأبدع في تصميماته، لكنه كان
يحمل معه دائمًا ذلك الدرس القاسي. لم يعد ينظر إلى الآثار القديمة بنفس الطريقة.
أصبح يحترم غموضها وأسرارها، ويدرك أن هناك حدودًا للمعرفة البشرية، وأن بعض
الأسرار من الأفضل أن تبقى مدفونة في رمال الزمن.
همسات من الماضي ظل لا يغيب
في إحدى الليالي الصافية، بعد سنوات عديدة من تلك
الحادثة، كان رامي جالسًا في شرفة منزله المطلة على نيل القاهرة الخالد. كان يتأمل
النجوم المتلألئة في السماء، ويستمع إلى همهمة المدينة التي لا تنام. فجأة، شعر
بنسمة هواء باردة خفيفة، وسمع ما يشبه همسًا خافتًا جدًا، قادمًا من بعيد، من
اتجاه الجنوب، حيث تقع أسوان وأبو سمبل.
نظر نحو الأفق البعيد، وفي خياله، أو ربما في حقيقة لا
يدركها سواه، رأى للحظة وجيزة جدًا، ظل امرأة ترتدي ثوبًا فرعونيًا، تقف على ضفاف
النيل البعيدة، تبتسم له ابتسامة هادئة وغامضة، قبل أن تتلاشى مع أول خيوط الفجر.
أدرك رامي حينها أن بعض الأرواح، وبعض الذكريات، لا
تختفي تمامًا. وأن بعض الأبواب، حتى لو أُغلقت، قد تترك صدى خافتًا يتردد عبر
الزمن، ليذكره دائمًا بأن الماضي حي، وأن بعض الأسرار... يجب أن تبقى أسرارًا إلى
الأبد.
إرسال تعليق